الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
قيام الحجَّة معناه أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، أو يبلغه الدليل من كتاب الله وسنة رسول الله، ثم يخالف. قال الله تعالى: "وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ" [الأنعام:19]. فمن بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجَّة، وقال عز وجل: "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا" [الإسراء:15]. فمن بلغه الدليل فقد قامت عليه الحجَّة، أما إذا لم يبلغه الدليل فلا حجَّة عليه، أو كانت المسألة التي فعلها مسألة دقيقة خفيَّة، مثله يجهلها فهذا يكون معذوراً.
كما في قصة الرجل -الذي ثبت في الصحيحين وغيرهما- أنه كان مسرفًا على نفسه، فلما حضرت الوفاة جمع بنيه، وقال: أي أبٍ كنت لكم؟ فأثنوا عليه، فقال: إنه لم يبتئر عند الله خيرا، يعني: لم يعمل خيرا، وأخذ عليهم العهود والمواثيق أنه إذا مات أن يحرقوه ثم يسحقوه (يطحنوه)، ثم يذروه في البر، وفي لفظ: "يذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر" وظن أنه يفوت على الله، وقال: والله لئن قدر الله علي وبعثني ليعذبني عذابًا شديدًا.
قال في الحديث: "ففعلوا ذلك، فلما مات أحرقوه ثم سحقوه، طحنوا عظامه ولحمه ثم ذَرَوْه في البر وفي البحر، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر الله البحر وجمع ما فيه، وقال له: قم، فإذا هو إنسان قائم، فقال له: ما حملك على ذلك؟ قال: يا ربي، مخافتك، فما تلافى أن رحمه الله".
قال العلماء: إن هذا الذي حمله على هذا ليس الإنكار، فهو لم ينكر البعث، ولم ينكر قدرة الله، ولكنه ظن أنه إذا وصل إلى هذه الحالة وأُحرِق وسُحِق يفوت على الله، ولا يدخل تحت القدرة، فهو يعتقد أنه لو ترك ولم يحرق بعثه الله، لكن ظن أنه إذا وصل هذه الحالة، أحرق وسحق وذري فات على الله، فغفر الله له لجهله، وخوفه العظيم الذي حمله عليه، ليس الإنكار وليس العناد، وإنما حمله عليه الجهل والخوف العظيم، فغفر الله له.
فهذه مسألة دقيقة خفية بالنسبة إليه، أما إذا كان يعيش بين المسلمين، والمسألة واضحة، يعبد غير الله، يذبح للأولياء بين المسلمين، يسمع القرآن ويسمع النصوص فلا يعذر، ولو عاش إنسان بين المسلمين، ثم فعل الزنا، وقيل له: لماذا تفعل الزنا؟ قال: أنا جاهل لا أدري. فلا يعذر لأن هذه؛ المسألة واضحة، ولو تعامل بالربا وهو يعيش بين المسلمين، يقول: أنا جاهل لا أعرف حكم الربا. فليس بصحيح، أو سجد للصنم وهو بين المسلمين، ويقول: أنا جاهل. فهذا لا يعذر فيه.
أما الكتب التي كتبت، فالعلماء كتبوا في كل مذهب، الحنابلة والشافعية والمالكية والأحناف في مؤلفاتهم في الفقه، بَوَّبُوا بابا يُسَمَّى باب "حكم المرتد"، وهو الذي يَكفُر بعد إسلامه، وذكروا أنواعًا كثيرة من نواقض الإسلام ومن المكفرات، ومن أكثر من كتب في هذا الأحناف، فكتبوا في هذا شيئًا كثيرًا، حتى قالوا: إنه لو صَغَّر المصحف أو المسجد، وقال: "مُصَيْحِف" أو "مُسَيْجَد" على وجه التحقير، كَفَر، ويكون هذا من النواقض، نسأل الله السلامة والعافية.